هل ما يزال الإنسان محتاجًا إلى التأويلِ وهو الذي أوَّلَ كلَّ ما وُجِد حولَه من الأحْياءِ والأشْياءِ، وفَسَّرَها وتَفَسَّرَ بها، حتى بَدَا كأنّه كائنٌ لا يعرِف في الدنيا غيرَ التأويل؟ وما حاجةُ اللغةِ العربيةِ إلى هذا الفنّ/العِلْم وقد أبانت لأهلها عبر تاريخها معهم أنّها مِطْواعةٌ تقول أفكارَهم وأخبارَهم وحقائقَهم تامّةً وفصيحةً؟ قد يُحيل طرحُ هذيْن السؤالَيْن على كون التأويلِ صارَ ممارسةً شائعةً في معيش الناس، وفعلًا عامًّا وعموميًّا يُنجزه المرءُ بلا جُهدٍ، ولا يحتاج معه إلى كثيرٍ من التَّدْبيرِ العقليِّ. ولكنّنا نُقِرُّ، مع هذيْن السؤالَيْن، وإنْ همسًا، بأنّ تجربتَنا في الدنيا تُخبرُنا بأنّ العالَمَ لا يني يخدَعُنا، فلا يُظهرُ لنا من حقائِقِه إلّا ما كان منها مُمْكنًا وسهلَ التكشُّفِ سهولةً تبلغُ أحيانًا حدَّ التهافُتِ. ولأنّ انتكاساتِ الإنسانِيّةِ من تهافتِ الحقائق كثيرةٌ، ولأنّ الحقيقةَ إنما هي دومًا حقيقةٌ مّا في لغةٍ مّا، فقد تيّقن الإنسانُ تيقُّنًا ممزوجًا بألَمٍ من محدودية لغتِه وضِيقِها وفَشلِها في الإنباءِ بكلّ ما يرغَب في قوله، خاصة إذا اتسعت الرؤيَا كما قال النِفَّري وضاقت بحَمْلِها العبارةُ.
وبناءً عليه، ظلّت الهِمّةُ تتجدَّد في نَفَرٍ من الناسِ من كلّ عصرٍ ليَنْهَضوا بمَهمّةِ تأويلِ نُصوص الدّنيا، نعني: ليُخاطِروا بأجسادِهم وعقولِهم للعُبورِ بنا من خِطابِ الحقيقةِ الظاهرةِ في تلك النُّصوص إلى خطابات الحقائق المَخْفيّة فيها، فإذا التأويلُ بالنسبة إليهم ليس أسلوبًا للمعرفة فحسبُ، وإنّما هو أيضًا نمطٌ ضروريٌّ للوجودِ في العالَم كما حَدَّثَ بذلك هيدغر، لا بل إنّ التأويلَ إنما هو إعْمارٌ للعالَمِ وإحياءٌ له: هو إعمارٌ له لأنّ مع كلّ لحظةِ تأويلٍ يُضافُ إلى العالَم معنى جديدٌ سواءٌ أكان علمًا أم فنًّا أم قِيَمًا أم فلسفاتٍ، وفي كلِّ لحظةِ تأويلٍ يحيا نصٌّ من نصوصِ الدّنيا ويلتذُّ؛ إنّ تأويلَ نصٍّ مّا إنّما هو نَفْخٌ للحياةِ فيه، فما النصُّ إلاّ جَسدٌ لغويٌّ يحيا بالفَهْمِ، وما الكلمةُ منه إلاّ صوتٌ يُمجِّدُ الفتنةَ التي زُرِعتْ فيه، كما يقول التأويليّون بخُيَلاء. ولذلك، تكون القراءةُ والتأويلُ سبيلاً من سُبُلِ الشعوبِ إلى نشرِ التسامحِ، وإلى التحريضِ عليه في النصّ وبالنصِّ.
وفي أُفُقِ هذا، يكون التأويلُ فرصةً فكريةً لفهم قضايا اللغة العربية -لسانًا وأدبًا- بشكل أكثر عمقًا؛ ولتوضيح كثير من القضايا الدَّلالية والتركيبية والنَّسَقية والبلاغية والنقدية. وهو ما يسعى هذا المؤتمر إلى تدارُسِه عبر مناقشة أبرز تجليات التأويل في مختلِف مستويات اللغة العربية ووظائفها وأنظمتها ونواتج كلّ ذلك في المنجز اللساني والأدبي والنقدي والترجمي والتواصلي والقيمي، وما يرتبط به من قضايا ورهانات فكرية نظريًّا وتطبيقيًّا واستشرافيًّا.