بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين
وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين
لقد حازت جامعتنا، مزيّة الاسم وخصوصيّة المجال، فإنّ الاسم الذي شرُفت بحمله، ليس اسمَ علمٍ، من أعلام الأمة الكبار وقائدا حكيما فحَسْب، بل هو عنوان لرؤية وطن ورواية أمة، رؤية الإمارات العربية المتحدة، القائمة على تقديم المقاربات التواصلية وتبني النماذج التعايشية ليس في مجالات التربية على قيم التسامح وقبول الآخر بل في سائر ميادين العلاقات الإنسانية.
وهي رؤية تقوم على أُسُس فكرية ومقاصد تنموية من أهمها الجمع بين الإيجابية في المنطلق والفاعلية في الأداء والجودة في المخرج.
على هذه القيم بنى القائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “طيب الله ثراه” دولة الإمارات وعليها سار من بعده رئيس الدولة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان “حفظه الله” ونائباه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي “رعاه الله” وسمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان نائب رئيس الدولة نائب رئيس مجلس الوزراء رئيس ديوان الرئاسة، وإخوانهم حُكّام الإمارات العربية المتحدة.
تضعنا هذه الرُّؤية، أمام تحدٍّ كبير، هو تحدّي التميّز والفرادة؛ فهل نرضى لجامعتنا أن تكون مجرّد نسخة معادة وصيغة مكرّرة من الموجود؟ إن الطموح الذي يسند تأسيس هذا الصرح المعرفي الجديد متشوّفٌ إلى الإبداع، وباعث على الابتكار، وذلك ما توحي به المسارات والمساقات الفريدة التي تزدان بها الجامعة الآن، كمساق التعايش ومساق فقه السلم والمواطنة ومسلك فقه الواقع ومسلك التسامح، وهي كلها موادّ جديدة لا عهد للساحة الأكاديمية في المنطقة كلها بها.
إن المرجوّ أن تكون جامعتنا منارة للإشعاع العلمي في المنطقة كلها، وصرحا معرفيا، لا شرقيا فقط ولا غربيا فقط، بل سيكون شرقيا وغربيا جامعا بين محاسن النموذجين، ونأمل أن يمثّل قيمة مضافة وابتكارا لا يتنكّر للمكتسبات، وأنّ نوفَّق جميعا في تقديم منتج يمكن أن ينافسَ في سوق المعرفة وأن يحظى بشهادة الجامعات الكبرى، شهادة تنويه وإقرارٍ بأنّه فتحٌ جديد وقيمة مضافة في المنهج.
على أنّ الإبداع الذي نتشوّف له ليس بحثا عن الجدّة كيفما كانت، وإنّما هو القدرة على تقديم منتج مبتكر، مناسب للسّياق المحلّي وملائم للحاجة المجتمعية، عبر معادلات ومرتكزات جديدة، تنشئ فكرا خلاقا مستوعبا ومضيفا، متجاوزا الاستجابة والتكيُّف إلى الاختراع والإبداع والأخذ والعطاء، والشراكة الحضارية.
إن هذه الفرادة والتميّز الذي نطمح إليه لن يتسنى إلا من خلال ابتكار المنهج وجودة المخرج وعمق الفكرة ووضوح النظرة؛ فما هو المنهج الذي يمكن أن يحقّق لنا ما نصبو إليه؟ إنّه منهج الموائمات الحضارية والوساطات ، إنه منهج الجسور الممدودة بين الحقول المعرفية والممرات الواصلة بين الفضاءات الثقافية، إنه منهج التحالف بين القيم، والتوازن بين الكليات.
نعتقد أنه قد آن الأوان لنبذ المنظور الفصلي الذي يرتكز على الخصوصيات ويهمّش ويلغي أوجه الاتصال ودوائر المشترك، ويقيم تقابلات سجالية وصراعا بين الذوات، مآله المحتوم تفكيك الوئام وهلاك الأنام. فلا بُد من التخفيف من المنظور المتقوقع، إذ هو منظور انفعالي لا يمكن أن يؤسس لرؤية حضارية.
بهذه المنهجية التي تقوم على تجاوز المتقابلات ونبذ القطائع والمفاصلات، والانتفاع بثمرات العقول ومحصولها، وإرساء التعايش بين الأفكار، حقّقت الإمارات بفضل الله ولا تزال تحقّق الاستئناف الحضاري الواعي والازدهار التنموي المثمر.
الوساطة الأولى: التراث والمعاصرة:
ومن أول ما نرجو تجاوزه في جامعتنا ثنائية التراث والمعاصرة، فإن التمانع بينهما أمر خطير، والإقصاء المتبادل بينهما مرفوض، إذ في كلا الموقفين الحدّيين شططٌ وغلوٌ، فالقطيعة مع التراث غلط والتّقَوقع فيه خطأ. لذا فإنّ الإشاحة بوجوهنا عن التراث واهمال ما فيه من امكانات الإثراء، والتبرم من الحداثة واليأس منها، كلا الحالتين تولدان استلاب الهوية أو التخلف عن ركب الحضارة.
ولا سبيل إلى الخروج من هذا التقابل إلا بمقاربة قوامها الموائمة والملائمة، واستكشاف فضاءات الالتقاء ومجالات التماس والتقاطع، وتوسيع قنوات التواصل.
إننا نوافق الفيلسوف الألماني هايدغر في ما ذهب إليه من أن الاعتقاد بأن التراث موجودٌ وراءنا هو اعتقاد خاطئ، إذ هو دائما أمامَنا، ولا يمكننا تجاوزُه إلا من خلال تملُّكه تملكا واعيا ومحاورته محاورة تستثير ما يُكنّه من الطاقات البناءة، فالتجاوز لا يعني التجاهل والإهمال، بل يعني التبني الواعي والتوظيف المثمر.
والبحث عن التوازن المطلوب يكون من خلال التعمق في التراث، والاستنجاد بإيجابياته، وتحريره وتأصيله، وتجليته بكل إمكانيات الإشراق والتنقيب في أعماقه، عما هو قمين بأن يستخرج وجدير بأن يُستوحى وقادر على أن يستثمر في بناء معرفي جديد.
منهجيتنا في الجامعة ينبغي أن تكون الانفتاح الواعي على العصر بكلّ ما يحمله من تطوّر وتغيُّر بدون التنكّر للذات العميقة التاريخية وما تحمله من ثوابت وقطعيات من خلال توازن راشد لا يشعر فيه الإنسان بالغربة عن تراثه الديني والثقافي ولا يتعامل مع المحيط العالمي بروح الخصومة والنفور.
ينبغي أن نبحث عن كيف نحيل الاختلاف ائتلافا والتنوّع تعاونا لكي تغدوَ العلاقة مع الآخر فرصة لاكتشاف ميادين التعاون وتحقيق النفع المتبادل.
إنّنا نؤمن أنّ اللقاء مع الآخر كان دائما وراءَ بُزوغ الحضارات الكبرى وسببا في تحقُّق النهضات العظيمة؛ ومن تتبّع ما جرى من أوجه التعارف الحضاري حول ضفاف المتوسّطي، فسيجد أن التلاقي والتواصل والتبادل والتكامل تحقّق أكثر من مرة فكان في كل مرة مُؤذنا بارتياد العقل الإنساني لآفاق جديدة وميلاد طاقات تجديدية، ولنا خير مثال في التلاقح المعرفي بين حضارتنا العربية وتراث الأمم القديمة الشرقية والأوروبية من اليونان والرومان.
ولا يمكن هنا إلا أن نستلهم من أمثلة التجانس والوئام عبر التاريخ ومن بينها ما مثله علماء وفلاسفة كبار كان تأثير بعضهم على بعض واضحا من الغزالي إلى موسى بن ميمون إلى توما الأكويني، الذين وحدتهم الفلسلفة الدينية رغم اختلاف أديانهم.
الوساطة الثانية: الفلسفة والدين
ومن الوساطات الضرورية التي نأمل أن تنجح فيها جامعتنا الوساطة بين الفلسفة والدين، فلقد درج الناسُ على افتراض تنافر جذري بينهما، إما على وجه التضاد، أو على سبيل الاستقلال.
إن الجوار بين الفلسفة والدين قد يتوتّر، والخلاف بين ممثّليهما قد يحتدم، إلا أن ذلك لا يدفعنا إلى الاعتقاد باستحالة الحوار، بل إننا نؤمن بأن هذا الوصل ممكن وضروري، وأنّ هذه الخصومات التاريخية لا ينبغي أن تغيّب نجاحات وتحجب لقاءات سعيدة جرت على يد فقهاء فلاسفة وفلاسفة فقهاء، ومن أبرز هؤلاء رائد المصالحة ابن رشد الحفيد في كتابه “فصل المقال في ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال”.
لقد كان في الإسلام فلاسفة كبار، مثل الكندي والفارابي وابن سينا وابن طفيل وابن باجه وابن رشد، كما وجد من الفقهاء والمتلكمين من تبنوا منهجية الفلسفة في التفكير المنطقي وصناعة المفاهيم ودعوا إلى تبنيها كما فعل ابن حزم والغزالي وغيرهما. وأكثر ما وُجد في تراثنا الإسلامي من نقد للفلسفة لم يكن يستهدف هذا البعد المنهجي.
ولذلك يجب أن نميّز بين الفلسفة باعتبارها منهجا في التفكير يقوم على السؤال والتحليل والتّرْكيب والنّقد والاستنتاجِ، وبين الفلسفة كأجوبة وأطروحات ومواقف ومفاهيم من فكر فيلسوف أو آخر.
لقد كانت الفلسفة أوّل أمرها تطلق على جميع فصول المعرفة الإنسانية، ثم لم تزل شجرتها تشذّب، وتفقد أغصانها غصنا بعد غصن، باستقلال العلوم عنها تباعا، حتى آلت إلى جوهرها وهو السؤال والاستفهام طلبا وبحثا وتحقيقا وتدقيقا. فكما يقول كارل جاسبرس، إن الأسئلة في الفلسفة أهمُّ من الأجوبة.
فإذا فهمت الفلسفة فهما يتجاوز ثمراتها اللحظية، إلى جوهرها التساؤلي لم نجد فيها ما يفترض تناقضا أو تعارضا محتوما مع الدّين، بل لا يعدم المتكلم والفقيه وغيرهما من أصحاب النظر الديني فائدةً بمحاورتهم للقول الفلسفي، في توسيع مداركهم وإحكام مناهجهم وتبسيطها .
وفي المقابل نعتقد مع هابرماس أن الفلسفة ينبغي أن تكون مستعدةً للتعلم من الدين، ونرى مع بول ريكور أنه آن الأوان لنتجاوز التمييز الإقصائي بين السجلين الفلسفي والديني لندخلهما في حوار بناء ضمن ما أسماه باقتصاد العطاء، القائم على الاعتراف والتعارف المتبادل.
لعلّ المطلوب من جامعتنا في هذه المرحلة أن توجد مصالحة مع المصطلح الفلسفي، بتبيئته في مجالنا الثقافي ليحوز المقبولية وينال الشرعية، وأن نحذر من استعجال الثمار فنحرق المراحل ونغفل السياق فتأتي النتيجة عكس المبتغى.
والغاية الكبرى من التعليم الفلسفي في عالمنا العربي ينبغي أن تكون إعادةَ المنطق إلى حياةِ الناس وأن نعيد برمجة العقول للتفكير الإيجابي ومركزة العقل في الخطاب الديني من خلال مفاهيم المصلحة والحكمة والعدل والرحمة.
الوساطة الثالثة: العلم والدين
ومن المهام التي يمكن أن تناط بجامعتنا التوسّط بين الدين والعلم بمعناه الحديث، فلقد آن الأوان لنكسر الحواجز ونتجاوز الرفض المتبادلَ، الذي شكا منه الفلاسفة وعلماء اللاهوت الكبار، كـاللاهوتي والفيلسوف الأمريكي أَلْفِينْ بلانتينچا Alvin Plantinga. ولا يتمُّ هذا التقريب إلا بتوضيح العلاقة وتحديد المجالات وتمييز الاهتمامات. فإن الأسئلة التي يُعنى بها الدين غيرُ تلك الأسئلة التي تجيب عليها العلوم، فقصارى العلم كما يقول كلود برنانر البحث عن العلل الثانوية للأشياء. وليس له مرتقى إلى العلل الأولى.
فمعتمد العلم الملاحظة الاستقرائية التي توصل إلى قوانين كلية كما يقول الفيلسوف رَسَلْ، وليس من شأن العلم أن يثبت أو ينفي ما وراء مجاله فعدم وجدانه للغيبيات لا ينفي وجودها، وعدم علمه بها لا يفيد علما بعدمها، فكم من أمر لم يكن للإنسانية به علم ثم تمّ اكتشافه، فلم يكن جهل الإنسانية له دليلا على عدم وجوده، وقد وجد الفئام من سدنة العلوم ممَّن حفزهم بحثهم في الكون على الإيمان لما رأوه من بديع آثار الخالق، ومن هؤلاء نيوتن.
ولهذا فإن تحميل العلم مسؤولية الإلحاد أو ضربه بالدين وضرب الدين به، كل ذلك سببه الخطأ في تعامل الناس، مع العلم حيث طلبوا منه أن يجيب على أسئلة من خارج ميدانه:
إذا سلكت للغور من بطن عالجٍ * فقولا لها ليس الطريقُ هنالكِ
إن الإلحاد المتلبس بلبوس العلم والفلسفة ليس إلا جهلا، ويحكى في هذا الصدد أن عالما لاهوتيا إنجليزيا كان في حديقته يسقى زهورها، ويعتني بنباتاتها، فالتقى بجار له جديد وتجاذبا أطراف الحديث، فسأله الجار عن مهنته فأجاب أنا عالم لاهوتٍ، فردّ الجار على الفور بأنه ملحد، ولا يؤمن بدين، فسأله عالم اللاهوت هل ّقرأت كتب القديس أوغستن، أو توما الأكويني وغيرهما من فلاسفة النصارى، فأجاب كلا لم أقرأ شيئا من هذا التراث، فقال له “لعلّك تفضل الفلسفة الشرقية فهل قرأت شيئا للغزالي أو ابن سينا أو الرازي، فأجابه بالنفي، فقال حسنا ربما لك اطلاع على آراء المعاصرين، كأَلْفِينْ بلانتينچا قال لا، هُنا رجع اللاهوتي إلى الاعتناء بحديقته، وأشاح عنه قائلا: اعذرني أيها الجار أنت لست ملحدا بل جاهل فقط.
أتمنى أن تنحو جامعتنا منحى مركز فاراداي للعلم والدين التابع لجامعة كامبردج، في تناول الأسئلة الكبرى المتعلقة بمعنى الحياة والهوية البشرية والعلاقات الإنسانية، من خلال مقاربة جديدة تُوَفِّقُ بين الفهم العلمي والفهم الديني.
إن الازدهار والاستقرار لا يكفي في تحصيلهما توفُّر الأسباب والشروط التقنية، والاقتصادية، بل يستوجبان القدرةَ على إثراء الوجود بمضامين قيمية ومعانٍ سامية، ويتطلبان نظرة شاملة للحياة مبنية على التناغم بدل التصادم والتعاون بدل التنازع. وذلك كله يؤكد الحاجة إلى استكشاف مناطق الالتقاء والتقاطع بين العلم والدّين.
الوساطة الرابعة: التكامل المعرفي
ومن الجسور التي نقترح أن تبنيها جامعتنا تلك الرابطة بين العلوم الإسلامية والعلوم الإنسانية، فالمرجوّ من مناهج الجامعة أن تتجاوز الجزر المعرفية لتصل بينها وتدمج بعضها في بعض لتتضافر كلها في مهمتها الأساسية وهي مهمّة صناعة الإنسان.
ولذلك فإنني أفهم اسم جامعتنا ومجال عملها “العلوم الإنسانية” بمعنى أرحب من الاصطلاح المعروف، حيث تشمل بالإضافة إلى التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس، العلوم الإسلامية كذلك، إذ هذه العلوم جميعُها مناطها الإنسان، وهو محلها وموضوع عنايتها وبحثها، تتناول الإنسان بمعناه الشامل، بكليته الفكرية وباطنه الشعوري ومظهره السلوكي، تدرس حياة الإنسان من كل جوانبه، قلْبا وقالبا، سلوكا ومعاييرَ وغايات.
ولذلك صحّ أنّ توصف الفنون المختلفة كالآداب والعلوم الاجتماعية والفلسفية والتاريخية وعلوم الشريعة والعلوم الشرعية، أن توصف جميعها بأنها علوم إنسانية.
فهي التي تشكّل شخصية الإنسان وتوعز له بالفعل وتضع منظومة التصورات الذهنية التي تحكم النسق السلوكي والمعياري في حياة الفرد والجماعة، إنها ترسل الرسائل وتقدم الأوامر وتوجه الضمائر.
فلئن كان من اليسير – نسبيا- أن تدرس الرياضيات والأحياء، لما بينها وبين الإنسان من مسافة موضوعية، فإن الصعوبة تظهر عندما يتعلق الأمر بالعلوم الإنسانية التي تتحد فيها الذات العارفة بموضوعها، فلذلك ليست هذه العلوم مجرد مواد تدرس أو مضامين تتلقى بل هي مسار إنساني متكامل تلعب فيه شخصية المعلم القدوة دورا أساسيا.
كما تظهر الحاجة إلى التضامن المنهجي بين العلوم الإنسانية والإسلامية، من خلال دورانها جميعا حول الواقع، إما وصفا و تشخيصا وإما اقتضاء وتأثيرا، فالفقيه عندما يتوجه بفكره إلى الواقع ليحكم عليه لا يمكن أن يستغني عن جهد توصيفي سابق يمكّنه من التكييف، فكل خطاب شرعي بالتكليف مؤطر بخطاب آخر هو خطاب الوضع، يرسم حدوده الواقع.
إنّ العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية كلها، في منظور الفقيه، بمثابة المعرّفات للواقع، تلقي عليه أضواء كاشفة، تمكنه من التعامل معه، فهي النظريات الخمس التي تحدث عنها الغزالي في أساس القياس، ومن خلالها يقع تحقيق المناط: اللغة والعقل والطبيعة والحس والعرف.
كما تنبثق الحاجة إلى تجسير العلوم من الوعي بالتركيب كوصف ذاتي للوجود كما يقول أدغار موران، فالواقع بتركيبه المربك لا يمكن أن ندعي الإحاطة والإمساك به من منظور أحادي ولا يكفي علمٌ مهما كانت دقته وصوابية نتائجه لينفذ إلى حقيقته الكامنة، بل لا بد أن تتضافر وجهات النظر المعرفية وتتكامل لترسم لوحة أقرب إلى الدقة وإلى الاكتمال.
ولقد شكا العلماء المعاصرون من تشتت الحقائق وتبعثرها بسبب زيادة العلوم وتفرعاتها، ودعوا إلى البحث عن منظور يلمّ شعثها ويجمع متفرقها في فكر متناسق ومعرفة موحدة؛ ومن هنا نشأت مقاربات العلوم البينية Interdisciplinarité والعلوم المتعددة Pluridisciplinarité والعلوم المتكاملة Transdisciplinarité، فلعل جامعتنا هذه أن تنحو في تدريسها للعلوم الإنسانية هذا المنحى الدمجيّ الموجّه بالغايات العملية.
الوساطة الخامسة: الوساطة بين القيم
إن انتهاج مبدأ الموائمة وأسلوب التجسير سيكون من ميادينه تنسيب المواقف من تطبيق القيم، وتحقيق التوازن بين جملة من التجاذبات بين الكليات، وتجسير العلاقة بين عالمَيْ الأفكار والأشخاص، فبدلاً من واقع قيم تهاجم وقيم تقاوم، سيكون التعاون والتعاضد والتآزر والتعارف هو عنوان المرحلة.
نحن مطالبون على مستوى القيم بالبحث الجادّ عن مواقف عملية تتوسط بين بعض المتقابلات من القيم، بإيجاد صيغ تُجلي التوازن المطلوب بين الحرية والسلم وبين الفرد والجماعة وبين حرية التدين وحرية التعبير، وبين منطق الحريات والحقوق ومنطق الواجبات.
نبحث عن وساطات تستلهم من تلك التي أقامها توما الأكويني بين العدالة والرحمة، حيث كان يقول إنه بدون الرحمة تغدو العدالة قسوة وثأرا، وبدون العدالة، تنقلب الرحمة ضعفا وعجزا. وبنحو هذه الوساطة طالب بول ريكور حين حاول الجمع بين تأويليات العدالة والمحبة، في وساطات يرى هو نفسُه أنّها بالضرورة تظلُّ هشّةً ومؤقتة.
الوساطة السادسة: الموائمة بين الخطاب الديني والواقع:
بهذه المنهجية المبتكرة والرؤية الإبداعية، تطمح جامعتنا بوصفها فضاء للبحث ومنارا للإشعاع والتّفاعل مع المجال الثقافي الرحب من حولها، أن تنتهض لمهمة تجديد الخطاب الديني باستعادة بعده الإنساني وأسلوبه الحواري، وتحيين مفاهيمه وتفعيل قيمه، وفق ما استجدّ من أحوال وطرأ من متغيرات، فالخطاب الديني لا ينبغي أن يظلّ حبيس قطائع مصطنعة، بل هو خطاب منفتح على موائمات يفرضها الواقع ويزكيها الشرع والعقل.
ولعلّ أهم مدخل لتجديد الخطاب الديني هو المدخل المفهومي، وذلك أن جملة من المفاهيم ذات الشحنة والحمولة العالية، كانت في الأصل تشكل سياجا على السلم وأدوات للحفاظ على الحياة ومظهرا من مظاهر الرحمة الربانية، اجتالتها الأيدي غير الصناع، خارج الضبط العلمي، فعرتها من شروطها و تجاوزت عوائق الموانع، ووضعتها غير موضعها، ففهمت على غير حقيقتها وتشكلت في الأذهان بتصور يختلف عن أصل معناها فانقلبت إلى ممارسات ضد مقصدها الأصلي وهدفها وغايتها.
ولهذا فإن منطلق التجديد ومنبت أرومته إنما يكون في صناعة هذه المفاهيم وصياغتها صياغة مستقلة مبتكرة ومخترعة أو مراجعة المفاهيم المعتمدة وما يتولد عنها من الأحكام لتهذيبها وتشذيبها وعرضها من جديد على أصولها من جهة وعلى الواقع من جهة أخرى، من خلال ثلاثي اللغة الوضع والحمل والاستعمال من جهة ومن جهة أخرى ثلاثي الواقع (الأسباب والشروط والموانع)، مما قد يؤدي إلى تحويرها أو تعديلها وتبديلها.
وفي هذا السياق تأتي مهمة ترجمة المفاهيم الدينية إلى لغة الفضاء العمومي، حيث نتنبى وجهة نظر الفيلسوف الأمريكي جون رولز والألماني هابرماس في دعوتهما إلى فتح المجال العام أمام الإسهام الديني بوصفه قولا حمالا لرؤى وآراء يمكن أن تسهم إيجابا في إثراء المناقشات العامة، واشترطا لذلك أن تتم ترجمة المقولات الدينية في لغة هذا الفضاء العمومي المُعَلْمَن.
فالحاجة قائمة إلى الموائمة بين المفاهيم الشرعية والمفاهيم المستجدة باعتبار أن هذه الموائمة قد تهيئ السبيل للسلم المجتمعي، فبدل الإشاحة عنها ينبغي التعامل معها من خلال عملية مراجعة وإعادة صياغة انطلاقا من الأصول الشرعية ومقاصد الشريعة وإن شئت قلت مقتضى النظر الشرعي ومقتضى العصر.
وإننا لنعوّل على جامعتنا الواعدة، جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية لتكون مسبار أمل ومنصة إطلاق لمشاريع طموحة من البحث المؤصل في المجالات الفكرية المقاصدية والفلسفية، لتقديم مفاهيم مبنية على إشكالات الواقع، مستندة إلى قيم الشرع، منزلة على ميدان خطاب الوضع، كما يعوّل عليها لتبثّ مفردات السلم والتسامح والأخوة الإنسانية في قاموس الحياة العربية والإسلامية.
خاتمة:
نريد أن تغدوَ جامعتنا جسر عبور سلس إلى العالم الجديد، لا يشعر الباحث عن المعرفة عبرَه، بغربة الفراق، ووحشة الخروج من حقل معرفي لآخر.
تلك هي مقاربتنا ورؤيتنا التي نطمح إلى تحقيقها، رؤية تقوم على الموائمة والملائمة والتوسّط وإيجاد الجسور والوسائط التي تصل بين ضفتي نهر الحياة الوفي لمنبعه المتلون بألوان تربة مجراه، في سلاسة وانسياب ليسقي بساتين المعارف الإنسانية.
لا أظنني أحتاج إلى التأكيد على أهمية البرامج الأكاديمية التقليدية التي هي من صميم عمل الجامعة، وإنما اكتفيت هنا بالأبعاد التجديدية التي نرجو أن تمنح جامعتنا التميز وتكسبها عوامل التفوق.
غايتنا هي الارتقاء بفاعلية الإنسان، في جودة عمله، وإتقان صنعته، ومتانة تكوينه، فالإنسان كما يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد هو غاية كل خطط الدولة ومحور جهودها التنموية، فلا تنمية إلا بالإنسان وللإنسان.